حول الغياب السوري عن لقاء فيينا

ورد عن الشاعر جرير التميمي في ذم خصومه بني تيم:

 

وَيُقْضى الأمْرُ حينَ تَغيبُ تَيْمٌ وَلا يُسْتَأمَرُونَ وَهُمْ شُهُودُ

 

حيث عاب جرير على بني تيم أن الناس يقضون في الشأن العام وفي الامور الهامة في غيابهم، وإذا حضروا فلا يُسألونَ عن رأيهم. ولكن لو قُدِّر لجرير أن يعيش لزمننا هذا ويشهد اجتماع وفود الدول العربية والاجنبية لتقرير مصير الشعب السوري وفي غيابه بكافة أطيافه وتوجهاته، ربما لو قدّر له حضور هذا المشهد لبالغ في هجاءه لبني تيم كما يلي:

وحينَ تَغيبُ تَيْمٌ يقضى بأمرهم  وَلا يُسْتَأمَرُونَ في شأنهم وَهُمْ شُهُودُ

ولعل أطرف البنود التسعة في الوثيقة التي صدرت عن المجتمعين هو البند الاول القاضي بتحديد هوية الدولة في غياب شعبها، وتحديدا التقرير بالحفاظ على الهوية العلمانية لسوريا، في حين أن أهم الدول الاقليمية التي شاركت في صياغة البيان (إيران والسعودية) تتغنى بكونها دول دينية نقيضة للعلمانية.

ومع ذلك يتوجب الاعتراف أن هذا المستوى من الاهانة والتجاهل الذي وصلنا له كسوريين ليس نتيجة مؤامرة على سوريا وشعبها بقدر ما هو نتيجة طبيعية لسياسات النظام المجرم في دمشق الذي باع استقلاله السياسي لإيران وروسيا مقابل استمراره في الحكم، ومن جهة أخرى نتيجة لعدم إدراك النخب السورية المعارضة المتصدرة لقيادة المرحلة لطبيعة العمل السياسي وماهية الميكانيزمات التي تحكم العلاقات الدولية. فحتى اليوم هناك غياب كامل لدى المعارضة السورية لأي مشروع عملي يسعى لامتلاك أدوات التأثير على السياسة الدولية فيما يخص الشأن السوري.

 

فهذه النخب إما فاقدة للقدرة على تقديم أية قيمة مضافة في حال تمت دعوتها للقاء في فيينا، أو ان خطابها نحو الخارج فئوي أو طائفي أو مغرق في الايديولوجيا مما يجعله غير مقبول من وجهة نظر أغلب المجتمعين هناك، الامر الذي جعل هذه النخب بشكل أو بآخر جزء من المشكلة. ولكنها بخلاف إيران لا تملك الاعتراف الدولي والقدرات الضخمة التي تملكها ايران مما لا يؤهلها أن تكون جزء من الحل. وبالتالي يمكن الخلوص إلى أن احد أهم أسباب الغياب السوري عن لقاء فيينا هو غياب المشروع السياسي الوطني الفاعل والقادر على استقطاب الطاقات والجهود السورية المبعثرة من جهة، والقادر على تقديم قيمة مضافة لأي تفاهم دولي يكون طرف فيه.

 

رغم ذلك يمكن النظر للقاء فيينا على أنه خطوة مهمة على طريق إيقاف النزف السوري أو الانتقال به إلى مستويات أدنى رغم ما تحمله تفاهمات فيينا من مخاطر كامنة على مستقبل سوريا. فلا يزال من الصعب اليوم الوصول إلى حلول جذرية وحقيقة تنهي الحرب في سوريا نظرا لقناعة كل الاطراف بأن الوقت يسير في صالحها وأنها لا زالت قادرة على احراز تقدم في الميدان في الاشهر القادمة. إلا أنه رغم ذلك قد يكون من الممكن الوصول لتفاهمات بين الاطراف المتصارعة على الارض السورية بما يؤدي إلى تحويل شكل الصراع من حرب صفرية مدمرة على كامل الارض السورية إلى نزاع سياسي ودبلوماسي، قد يرافقه صدامات عسكرية محصورة على خطوط التماس بين الحين والآخر. الامر الذي يجعل مشاركة إيران في هذه اللقاءات أمرا لا بد منه من أجل التوصل لهذه التفاهمات. وهذا ينسجم أيضا مع مقاربة المبعوث الاممي ستيفان دي مستورا والتي تسعى للتركيز على تطوير البيئة والأدوات التي قد تسمح لاحقا بالوصول لحلول سياسية بدل التركيز على المسائل الخلافية في الوقت الحالي. وإلا فإن البديل هو إستمرار الحرب الإقليمية والدولية على الأرض السورية وبدماء أبنائها لسنوات طويلة قادمة، حتى الوصول إلى الحسم العسكري من أحد الاطراف. إلا أن هذا الحسم لن يكون عندها إلا إنتصارا عقيماً، لا يمكن الإفادة منه نتيجة للحالة المعقدة التي ستخلفها الحرب.

ويمكن هنا الاشارة إلى التجربة الاوروبية في حرب الثلاثين عام والتي انتهت باتفاق ويستفاليا بعد أن دمرت أكثر من ١٥٠٠ مدينة ألمانية وقضت على ثلث الشعب الالماني آنذاك. فالعديد من الباحثين والمنظرين والسياسيين الاوروبيين يستلهمون التجربة الاوروبية في حرب الثلاثين عام لدى بحثهم عن مقاربات مناسبة للحالة السورية. فهي بدأت كخلاف داخلي بين الملك الكاثوليكي فرديناند ورعاياه البروتستانت في براغ. إلا انها تحولت لحرب أوروبية موسعة شاركت فيها جميع الدول الاوروبية الفاعلة آنذاك ولم تنتهي إلا باجتماع ممثلين لهذه الدول على مدار عامين كاملين استطاعوا خلالها انتاج وثيقة فيستفالن ١٦٤٨ التي عالجت أسباب وجذور هذه الحرب الطويلة، ووضعت الأساسات التي تشكل عليها الفضاء الاوروبي لثلاثة قرون لاحقة.

وفي النهاية لابد من النظر للقاء فيينا وما سيتبعه من لقاءات على أنها اجتماعات لممثلين عن الدول التي تتضارب مصالحها وتتصارع مشاريعها على الارض السورية. وبالتالي فإن هدف هذه اللقاءات هو الوصول إلى حل سياسي يضمن التفاهم حول هذه المصالح. أما مصير الشعب السوري فهو في أحسن الاحوال نتيجة ثانوية لهذه التفاهمات. ففي غياب أي مشروع وطني سوري جامع قادر على استقطاب ومخاطبة السواد الاعظم من الشارع السوري ستبقى ثمار التقدم العسكري لقوى المعارضة السورية تصب في سلل الدول الحليفة للمعارضة كنتيجة مباشرة لغياب المشروع السياسي الوطني القادر على استثمارها. وسيبقى مصير سوريا والسوريين أحد النتائج الثانوية للمشاريع المتنافسة في الشرق الاوسط. وحتى ظهور هذا المشروع ستتوالى اجتماعات فيينا واخواتها دون أي مشاركة حقيقية وفاعلة لأطراف سورية.