Select your language

logo16

البدء بإعادة الاعمار في سوريا .. بين الوهم والحقيقة

 

تمكن النظام السوري خلال العام الماضي من إعادة سيطرته على أغلب المناطق السورية التي ثارت عليه وبالاخص المنطقة الجنوبية وريف دمشق. الامر الذي أشاع شعورا عاما بإن المعركة قد حسمت لصالح النظام وأن الخطوة القادمة ستكون البدء بعملية إعادة الإعمار وتطبيع علاقات نظام الاسد مع الشرق والغرب. الامر الذي دفع العديد من الدول الراغبة في المشاركة في إعادة الاعمار لتنشيط قنواتها الخلفية للتواصل مع النظام. مما دفعه لإطلاق عدة مشاريع لإعادة إعمار بعض الاحياء المدمرة في دمشق وريفها. فالنظام يدرك أن شرط تحويل انتصاره السياسي إلى نجاح سياسي مستدام داخليا أو على الصعيد الدولي، هو تطبيع العلاقات مع الدول المحيطة والغربية والبدء بعملية إعادة الإعمار بما يسمح له بإعادة الخدمات والسيطرة للمناطق المدمرة وكذلك بإعادة تدوير عجلة الاقتصاد السوري مجددا.

 

تكاليف إعادة الاعمار

تختلف تقديرات تكاليف إعادة الاعمار في سوريا باختلاف المنهجية المتبعة لاحتساب هذه التكاليف. فالبنك الدولي قام بتقدير هذه التكاليف بنهاية عام ٢٠١٦ بـ ٤٥٠ مليار دولار في حال توقفت الحرب في سوريا في عام ٢٠١٧، وتوقع ارتفاع هذه التكاليف إلى ٧٨٠ مليار دولار في حال استمرار الحرب حتى عام ٢٠٢١. النظام السوري قدر تكاليف إعادة الاعمار في العام الفائت بحوالي ٤٠٠ مليار دولار. وهذا يعادل أكثر من ستة أضعاف الناتج المحلي السوري لعام ٢٠١٠. 

على مستوى تمويل عمليات إعادة الاعمار، فيمكن الحديث عن مصدرين رئيسيين هما التمويل الخارجي عن طريق المساعدات والقروض من أجل إعادة بناء البنية التحتية للاقتصاد، وكذلك التمويل البنيوي عن طريق استقطاب الاستثمارات واستهداف نسب نمو مرتفعة. بالنسبة للمساعدات فمن المعروف أن أفغانستان تعد الدولة التي تلقت أعلى مستوى من مساعدات إعادة إعمار في العالم والتي بلغت حوالي 8 مليارات دولار سنويا. وفيما لو افترضنا أن سوريا استطاعت الحصول على نفس المستوى من المساعدات (وهو أمر مستبعد تماما)، وتم استخدام هذه المبالغ بشكل كفء (أي تم صرفها بالشكل الأمثل) وأنعدمت مستويات الفساد (وهذا أيضا أمر مستبعد بوجود النظام الحالي) فستحتاج الدولة السورية إلى أكثر من خمسين عاما لتغطية تكاليف إعادة الاعمار. كما ان إعادة ترميم الاقتصاد عن طريق استقطاب الاستثمارات الخارجية لا يزال متعذرا سياسيا نظرا للعقوبات الدولية التي تحاصر النظام السوري وحلفاءه وأزلامه. الامر الذي يحول دون إمكانية دخول استثمارات ضخمة إلى سوريا. عدا عن أن الجدوى الاقتصادية لأي عملية استثمار في سوريا تبقى محل تساؤل كبير نظرا لانعدام البيئة القانونية التي تضمن حقوق المستثمرين وانخفاض مستويات الامن والاستقرار المالي والاقتصادي مما يرفع مستوى المخاطر لدرجات عالية يصعب تغطيتها من عوائد الاستثمار. فسوريا اليوم تخضع للوصاية من عدة دول وتتواجد على أراضيها جيوش وقواعد عسكرية لستة دول ذات مصالح متضاربة مما يجعل أي عملية استثمار في سوريا في الظروف الحالية ليس أقل من مغامرة أو مقامرة عالية التكاليف. ثم أضف إلى ذلك دمار حوالي 60 بالمئة من النشاطات الاقتصادية التي كانت موجودة في 2010 نتيجة الحرب وما ترتب عليها من هجرة الطبقة الوسطى مما جعل سوق العمالة الماهرة والكفاءات المؤهلة فقيرا في سوريا من جهة، وأضعف القدرة الشرائية للمواطن السوري، خصوصا بعدما تجاوزت نسب التضخم ٧٠٠٪ مقارنة بعام ٢٠١٠.  

فعلى سبيل المثال سعى نظام الاسد لاطلاق مشروع ماروتا سيتي لإعادة بناء أحد احياء دمشق المدمرة (منطقة المزة القديمة وبعض مناطق كفرسوسة القديمة) والذي يقع عمليا في أحد أرقى وأغلى ضواحي دمشق (المزة) ويمتلك فرصة استثمارية ممتازة مقارنة بأغلب الاحياء المدمرة في سوريا. الهدف الظاهر من المشروع كان اطلاق نموذج لاعادة الاعمار يعتمد على الشركات الايرانية ويستغني عن التمويل الغربي. إلا أن المشروع واجه عدة عقبات يبدو أنها أنهت التجربة قبل بدئها، فبالإضافة لوضع مشروع ماروتا مع إدارته على قائمة العقوبات الاوروبية في شهر يناير بداية العام الجاري، فإن أسعار المجمعات السكنية التي تم عرضها للاكتتاب أو للبيع على المخطط كانت تتجاوز القدرات الشرائية لسكان المنطقة الذين تم هدم منازلهم والذين يفترض أنهم الشريحة المستهدفة بإعادة الاعمار. مع العلم أن الغالبية الكبرى منهم تم استملاك أراضيهم أو منازلهم أو ما تبقى منها بدون أي تعويضات حقيقية. أما الشرائح القادرة على الاستثمار في هذه المجمعات فأغلبها قد غادر سوريا ولا يرى جدوى من امتلاك عقار في سوريا في هذه الظروف. الامر الذي أدى في نهاية المطاف لتوقف المشروع من الناحية العملية. مشروع ماروتا هو تنفيذ لإحدى مخططات إعادة تنظيم مدينة دمشق العديدة التي أصدرها النظام خلال الاعوام الماضية. حيث يعمل نظام الاسد على إتمام عملية التغيير الديموغرافي في مدينة دمشق من خلال إصدار مخططات تنظيمية تهدف إلى إعادة إعمار المناطق المدمرة المحيطة بالعاصمة بعد منع أصحابها من العودة لها ومصادرتها بحجة إعادة تنظيم المدينة. إلا أن التنفيذ الفعلي لهذه المخططات مرهون بتوفر التمويل الدولي لهذه المشاريع بعد تعذر العثور على مساهمين محليين. الامر الذي سيجعل من عملية إعادة الاعمار عبر قنوات الدولة المركزية التي يسيطر عليها نظام الاسد أشبه بالمشاركة في جريمة مصادرة أملاك اللاجئين والمهجرين وإضعاف دوافعهم للعودة إلى سوريا كنتيجة طبيعية لأنه لم يتبقَ لهم شيء يملكونه في سوريا كي يعودوا له. أضف إلى ذلك المساهمة في تمكين نظام الاسد من إعادة ترميم أدوات القمع والسيطرة التي تآكلت عبر السنوات الثمانية الماضية من خلال تمكينه من تمويل قنوات الفساد وأجهزة القمع المركزية عبر أموال إعادة الإعمار.

 

التجربة العراقية كانت مثال آخرا على فشل نموذج إعادة الاعمار عبر الدولة المركزية في غياب تفاهم سياسي وعقد اجتماعي يضم جميع المواطنين. حيث يخلق هذا النموذج فرص هائلة لنمو الفساد وإضعاف المجتمعات المحلية وتعميق الشروخ فيما بينها بدل العمل على بناء قدراتها وتعميق علاقات التعاون والتبادل فيما بينها. كما يضاعف مستويات الشعور بالغبن لدى الفئات المهمشة التي لم تتمكن من الافادة من مشاريع إعادة الاعمار، مما سيحول دون تحقيق سلام اجتماعي راسخ واستقرار اقتصادي مستدام. النموذج البديل قد يكون إطلاق عمليات إعادة الإعمار عن طريق التعامل مع المستويات المحلية مباشرة من خلال تمويل المشاريع المحلية مع تدريب الكوادر المحلية ورفع قدراتها في نفس الوقت. قد يشرف النظام المركزي على خطة وطنية لإعادة الإعمار، إلا أن التنفيذ يجب أن يكون خاضعا لهيئات الحكم المحلية.

عمليات التطبيع مع النظام السوري

روسيا وإيران تدفعان اليوم بإتجاه إعادة الإعمار من أجل تخفيف العبء المالي لتدخلهما العسكري والسياسي ومن أجل زيادة قدرتهما على تحويل نجاحاتهما العسكرية إلى إنجازات اقتصادية مستدامة وهيمنة سياسية مجدية. ولكنهما لا يملكان القدرة المالية لإطلاق هذا المشروع. إيران تعمل على اعداد وتمويل مشروع لبناء ضاحية جنوبية في دمشق تكون مركزا لعناصر ميلشياتها الذين حصلوا على الجنسية السورية، حيث يندرج هذا المشروع ضمن مصاريف مغامراتها السياسية في المنطقة. إلا أنها لا تملك القدرة على إطلاق مشاريع إعادة إعمار حقيقة للمدن والضواحي المدمرة، وخاصة بعد تشديد العقوبات الامريكية على صادراتها النفطية. 

أما روسيا فهي تعمل بشكل حثيث مع بعض الدول العربية الراغبة في إطلاق عمليات إعادة الاعمار على إعادة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد. بعض هذه الدول يرى في هذا التعاون إمكانية خلق جبهة مضادة للثورات ويأمل في بناء قدرات وبنى هيمنة متقدمة وامتلاك أوراق سياسية رابحة في سوريا. بلغت هذه الجهود ذروتها باعادة افتتاح دولة الامارات العربية سفارتها في دمشق وزيارة الرئيس المخلوع عمر البشير لنظيره السوري بشار الاسد، ثم محاولة إعادة الاسد إلى الجامعة العربية كخطوة أولى على طريق إعادة تأهيله على المستوى الدولي. وقد نقلت الواشنطن بوست عن أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، مُفسِّراً أسباب قرار بلاده بإعادة العلاقات الدبلوماسية خلال مقابلةٍ أجراها: «لا يمتلك العرب أي نفوذٍ داخل دمشق، على الإطلاق. لأننا هدمنا كل جسور التواصل عام 2011، مما سمح للأطراف الإقليمية مثل تركيا وإيران أن تُصبح الدول صاحبة القرار. مما قتل النفوذ العربي داخل سوريا». كذلك عدة دول أوروبية على رأسها إيطاليا، بلغاريا، النمسا والنرويج زادت من نشاط القنوات الخلفية وسعت لإيجاد مخرج أوروبي يتيح التعامل مع نظام الاسد ولكن يحفظ ماء وجه الاوروبيين ويخرجهم من حرج التعامل مع مجرم حرب. ولعل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "أنه لا يرى خلفا مشروعا لبشار الاسد في سوريا" كان الابرز والاكثر صراحة في هذا السياق. إلا أن جميع جهود التطبيع هذه اصدمت برفض أمريكي صارم بلغ درجة التحذير عندما سعت بعض الدول العربية لإعادة الاسد إلى الجامعة العربية. فكما سربت الواشنطن بوست أيضا،  فإن إدارة ترامب ضغطت على حلفائها العرب ليعدلوا عن تطبيع العلاقات مع نظام الاسد مُحذرةً من أن أي خطوةٍ للمشاركة في إعادة إعمار سوريا سينطوي عليها فرض عقوباتٍ أمريكيةٍ، حيث ترغب واشنطن بالضغط على الاسد لإجباره بالشروع في إصلاحات سياسية، كما نقلت الصحيفة ذاتها. رغم غياب استراتيجية واضحة ومعلنة للادارة الامريكية في التعامل مع الملف السوري، إلا أنه من الواضح أنها تسعى لتعطيل أي حل أو انفراج في القضية السورية ما لم تكن هي عرابته. بل بات من المؤكد اليوم جدية الادارة الامريكية في حصار النظام السوري بعد أن حذرت قوات قسد من بيع النفط الخام أو نقل النفط الايراني الى النظام السوري عبر الفرات. كما أصدر مكتب الشؤون العامة لوزارة الخزانة الامريكية بيانًا يحذر فيه من مغبة تزويد النظام بالمحروقات، ويبين المخاطر المرتبطة بتسهيل شحنات النفط المتجهة إلى الموانئ التي يملكها ويديرها النظام السوري. الامر الذي عجل صفقة تأجير ميناء طرطوس لروسيا للالتفاف على هذه العقوبات. من المرجح أن تستمر حالة المراوحة في المكان للأزمة السورية لفترات طويلة تحرم النظام وحلفاءه من تحويل انتصاراتهم العسكرية إلى مكاسب سياسية واقتصادية مستدامة. الامر الذي سيؤثر حتما على تماسك النظام السوري في ظل أزمة الموارد التي يعيشها اليوم. وهو ما يثير قلق الروس ويدفعهم للاستحواذ على ادارة ما تبقى من هياكل الدولة ومنشآتها الحيوية بشكل مباشر.

الازمة السورية إلى أين؟

لا يبدو أن المناخ السياسي الاقليمي والدولي سيسمح ببدء عمليات إعادة الاعمار في سوريا في القريب العاجل، خاصة بعد أن وضعت الولايات المتحدة مكافحة نفوذ إيران في المنطقة على رأس أولوياتها. كما أن العقوبات السياسية والاقتصادية التي تحاصر النظام السوري تحرمه من أي فرصة لاستقطاب الاستثمارت الاولغارشية التي قد ترغب بالاستثمار مع الاسد نفسه. في حين أن رؤوس الاموال التي تبحث عن استثمارات طويلة الامد لا ترى في سوريا أي فرصة استثمارية في ظل استمرار نظام الاسد ببنيته المافيوية المعتمدة على شبكات الفساد المستشرية وفي ظل غياب أي افق حقيقي لتحقيق استقرار سياسي أو اقتصادي في المدى المنظور. أضف إلى ذلك غياب أي خطة دولية تسعى إلى تحسين الاوضاع المعيشية في الداخل السوري أو أي توافق دولي يمكن أن يشكل أساسا لحل سياسي مقبول. بل على العكس من ذلك، هناك مؤشرات عديدة لازدياد مستويات العنف في مناطق ادلب وريف حلب، وكذلك في مناطق قسد والحدود مع تركيا. كما انه من المرجح أن يؤدي استمرار حالة الاستعصاء السياسي الراهنة لتفاقم حدة الازمات بين أجنحة النظام المتصارعة بسبب نقص الموارد الشديد وانعدام مصادر الدخل التي وفرتها لهم الحرب على مدار السنوات الماضية كتحويلات الاغاثة للداخل السوري أو امدادات تمويل الحرب أو التعفيش. 

إذا استطاعت إيران التوصل إلى تفاهم جديد مع إدارة ترامب قد يتغير المشهد كليا، ولكن لا يبدو هذا الاحتمال ممكنا في الوقت الراهن. كما أن روسيا استطاعت السيطرة على أغلب ما تبقى من هياكل ومؤسسات الدولة السورية ومواردها. الامر الذي قد يمكنها من الاستغناء عن رأس النظام أو استبداله في المستقبل المنظور، الامر الذي قد يخلق ديناميكيات جديدة تفتح الباب لتفاهمات دولية جديدة تنهي حالة انسداد الافق في الشأن السورية. 


تم نشره على موقع قنطرة بتاريخ ٣٠ أيار من عام ٢٠١٩ تحت الرابط التالي: إضغط هنا